(إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).. دستور جليل وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحمل في طواياه معاني التسامح والتعايش، ويرسم خارطة للإنسانية جمعاء محورها قبول الآخر، ويبني مستقبلاً للمجتمعات لا يعرف الإقصاء.
(كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته)، نبدأ رسالتنا من هذا الحديث الشريف، الذي يحثنا ويشجعنا على تحمل المسؤولية في حياتنا، وتربية الأبناء على السلوكيات الصحيحة والأخلاقيات الرفيعة، واحدة من أهم وأوكد المسؤوليات في كل الأزمنة باختلاف تحدياتها، تربية الأبناء ليست مقيدة بسن معينة أو مرحلة معينة من مراحل نمو الولد، بل تبدأ منذ خروجه من بطن أمه، مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل مرحلة لها طريقتها وفنها في المعاملة والتعليم، وهذا له باب آخر وحديث مختلف ربما نفرد له مقالا في مناسبات مقبلة، إلا أن ما نريده من هذا المقال هو غرس مفهوم التسامح في نفوس الأبناء الذي يعد من أهم القيم التي تنمو معهم وسيكون لها الأثر الحسن في سلوكهم واستقرارهم.
أخلاقيات البيت
الوالدان يعلمان الأبناء التسامح والعفو والمحبة والحنان بطرق مختلفة ومتنوعة، فالبداية تكون في كيفية تطبيق هذه الأخلاقيات فيما بينهم في البيت، وفي طريقة معاملة الولد لأخوته، هذه واحدة من أهم المسائل التي تستحق وقتا واهتماما من الوالدين تجاه أبنائهم، كيف يسعيان إلى تثبيت المحبة بين الأبناء فيما بينهم، وكيف يبقون متوادين متراحمين، ومتسامحين.
بحكم تواجدي في قسم الإصلاح الأسري في محاكم دبي، واستقبالي للاستشارات الأسرية، سألتني يوما إحدى الأمهات، وقالت: لي ولدان، الأول عمره خمس سنين، والآخر عمره سنتان ونصف، كيف أجعلهما على يد واحدة؟ كيف أفعل بينهما المحبة والود والتراحم والتسامح؟ كيف أجعلهما يبتعدان عن العراك المستمر؟ صرت أخشى كثيرا عليهما من الكره والحقد والتفرقة في المستقبل.. أجبتها بكلام طويل، ولكني هنا سأختصره، قلت لها:
أولاً، لا تجعلي فكرة الكره المستقبلي تتغلب على الجانب الإيجابي. الذي من الممكن أيضاً أن يكون هو المستقبل، فالمستقبل يبقى مجهولا، علينا لو أردنا الصحة النفسية أن نتفاءل فيه ونواجه تحدياته المتوقعة وغير المتوقعة، فلا نجعل الأفكار السلبية تحيط بنا وتجعلنا نصل للإحباط والخوف المبالغ فيه.
ثانياً، عليكم أن تعدلوا بينهما في المحبة ودرجة الاهتمام والتشجيع العادل. حتى لا تدخل بينهما الغيرة والكره الناشئ عن التفريق في المعاملة، فهي تصرفات كفيلة بأن تحطم جسور التواصل بين الإخوة، لا سيما في السن المبكرة من حياتهم، حيث يريد كل واحد منهم أن تكون له الحظوة الكبرى عند والديه.
ثالثاً، ازرعوا المحبة بينهما عن طريق الفعل. مثلاً: من الطبيعي أن يحدث سوء فهم بينهما كونهما لم ينضجا بعد، فالعراك ممكن، ولكن عليكم تعليم الابن المعتدي أن يعتذر بأسلوب فيه لطف، كأن يقال للولد المعتدي مثلاً «أنت يا حبيبي سببت الألم لأخيك وهو يحبك، قل له إنك آسف»، فنحن بهذه الطريقة نعود أبناءنا على الاعتذار، ثم نعلمه كيف يثبت ويؤكد هذا الاعتذار، بأن يقوم بحضن أخيه، ثم نطلب منهما اللعب سويا، مع إدخال كلمات التشجيع والثناء عليهما «العبوا بس لا تأذون بعض، استانسوا» ونطلب من الكبير أن يعتني بالصغير ويحسن معه طريقة التعامل، وتحفيزه بشيء معين يحبه «لو كنتوا زينين بعطيكم ايس كريم» ونحوه من المحفزات التي تعزز السلوك الحسن، أيضا إذا ذهبتِ معهما إلى الجمعية أو مع أحدهما اطلبي منه إذا أخذ له الطعام الذي يحبه أن يأخذ لأخيه مثله، نجعله يتشارك معه، ليفهم أنه مع أخيه شيء واحد، وقلب واحد، ويد واحدة، ثم هو الذي يقوم بإعطائه هذا الغرض لتعويده منذ الصغر على المبادرة..
رابعاً، تتعامل مع الموقف بكل هدوء. وتبتعد عن الوسوسة والدخول مع الأبناء في تحليل نفسي واختبارات نفسية هما وهي في غنى عنه، وأنه عند اتباعها للخطوات السابقة تراقب درجة التحسن.
قالت لي: في الحقيقة أنا لم أعودهما على سياسة الاعتذار، والحضن، وغيره، لذا سأبدأ بذلك، خاصة أنهما في سن يسهل علي التعامل معهما، وقبل أن أختم معها الطرق طلبت منها أن تكون قدوة لهما هي والأب، خاصة في الهدوء وطريقة المعاملة أمامهما، لأن الصراخ والغضب والتهديد أمام الأبناء يؤثر تأثيراً سلبياً فيهم، وهذا ما يؤدي أحياناً إلى انتقال العنف لدى الأبناء فيما بينهم، وقبل النوم اجمعيهما بجانبك وقولي لهما قصة ينامان عليها، هذه القصة تكون هادفة على مستواهما تدخلين فيها جانب المحبة بين الأخوة، مع الحضن والتقبيل قبل النوم لكل واحد منهما، إلى أن يتعودا على ذلك ويصير جزءاً من حياتهما.
بعد أسبوعين جاءتني الإجابة منها، أنها وهي وزوجها لاحظا التغير، خاصة أن الكبير صار يهتم كثيراً بأخيه الصغير، ويقوم بحضنه وتقبيله، والسماح له باللعب معه، صحيح أن العراك يكون بينهما أحياناً، لكن الأمر اختلف تماماً عن السابق، سرعان ما ينتهي هذا العراك بالنسيان والاجتماع على اللعب أو الأكل.
الملاحظ أن هذه الطريقة استطعنا أن ننجح فيها بتوفيق الله نظراً لعامل السن، فالطفل كلما كان صغيراً استطعت أن تعلمه بسهولة، ولكن لو أهملته إلى أن كبر فهنا ستواجه صعوبة إلى أن تعيد له التوازن، لذا علينا أن نهتم بجانب التسامح مع أبنائنا منذ الصغر، ويكون على جانبين:
الجانب الأول: الاهتمام بالتسامح الداخلي، وهو بينهم البين في البيت الواحد.
والجانب الثاني: هو التسامح الخارجي الذي يكون خارج البيت، الذي نعلمه لأبنائنا، كيف يتعاملون مع الآخرين، مع القريب والبعيد، وهنا يكون السؤال، كيف أفعل التسامح الخارجي وأجعله منهجاً لأبنائي؟
القدوة الحسنة
هناك عدة خطوات وطرق لتفعيل هذا السلوك، وسأكتفي بالأهم، وهي خطوة القدوة الحسنة، وهذا دور الوالدين، لأن الولد جرت فطرته بتقليد من يحب، فعندما يخرج الولد مع أبيه، ويرى أباه يتصدق على الضعيف، وأحياناً يقوم الأب بإعطاء الولد مبلغاً من المال ليتصدق به أمام والده، ثم يجد التشجيع والتفسير من الأب حول فائدة الصدقة وحقوق الغير، عندما يرى الولد أباه وهو يحسن مع الآخرين في طريقة تعامله، كيف يختلط ويتسامح مع أفراد المجتمع، هذا لا شك سيكون له الأثر الإيجابي في نشأة هذا الولد على التسامح.
Comments